الأربعاء، 20 يوليو 2011

على "قيد" حياة !


ظلّ الحديث عالقاً في حلقه ، يتكوّر بشكل غصّة تجعل ابتسامته بعد هذا العمر تبدو وكأنها متصنعة ! 
وفي كلّ صباح ، في كلّ جنّة ، في كلّ فم عصفور .. كان يفتح فمه ويصير الحديث مطراً .. لأنها ليست معه !

هو يعجز عن إخبارها أنّ العابرين على أيامه "وهم كثر بالمناسبة" لم يستطيعوا محوها من ذاكرته المريضة !
هو المهووس بالأشياء الصغيرة التي فتحت له أبواب الجنّة الدنيوية ..
كانت كلّ تلك الأحذية النسائية الحادة الأطراف ، والروائح المحكيّة ، كلّ الألوان التي مرت أمام عينيه بسرعة استحالت معها لوناً واحداً ابيضت منه عيناه !
كانت كلّ التفاصيل الأنثوية الباذخة عاجزة عن أن تنسيه إياها !
هو فقط يعجز أن يخبرها أنّ ذلك الغياب كان مبتذلاً أكثر من اللازم ، وأنّه ما كان يجدر به أن يدعها تكبر بعيدة عنه ! لتتغير ملامحها ، لينبت الغيم في صدرها ، لتلتقي أعينهما ولا يعرفها .. ويدرك أنّه كان ميتاً منذ ذلك العمر !

لأنه لما كان الصباح الذي تشابه فيه البياض .. كان يقسم لها بأنه يحتفظ بها في قلبه ، وأنّ عليه أن يرحل لأنّ أمه ماتت ! وعليه الآن أن يكون مستعداً للموت جيداً .. وحيداً ، حزيناً ، وبلا أصدقاء !
أخبرها أنّ البكاء .. هو الدليل الوحيد على إنسانيتنا ، وأننا "نحن البشر" نكتب لأننا عاجزون عن البكاء ، ونبكي لأننا عاجزون عن الكتابة ! ذلك أننا نستلذّ بالدرك الأسفل من الحزن ، ونرصف بكاءنا لـ نصعد إلى السماء ، لنشتمّ رائحة أمهاتنا في الجنّة ، لنكون إلى شكل الإنسان أقرب ، وإلى الموت أقرب ..

كلّ ذلك الرحيل الكلاسيكي ، والفقد الذي يحدث فراغاً ضخماً في قلبها الصغير أفقدها القدرة على الحديث هي أيضاً ، وأدركت بعد عمر آخر .. أنّ عليها أن تجمع طرفي الإنسانية لتشعر به وكأنه كان هنا !
أنّ عليها أن تختنق ، ليبقى متسع من الهواء ليكفي ذلك الغريب ليبقى على "قيد" ..
أنّ عليها أن تموت .. لأنّ الدنيا لم تعد تبتسم لها حين رحل !
ولأنّ الأرض كبيرة لـ درجة أن صباحاً واحداً لا يتسع لها ،
ولأنّ الوجوه البعيدة تخلق فينا غصّة لا يخرجها إلا الذين تكوّنت من أجلهم .. لم يخطر ببالها إلا أن تكتب له رسائل طويلة .. تخبره فيها عن أسماء أصدقائها الذين التقطهم الموت من بين يديها ، عن السواد الذي خلق تحت عينيها ، عن الفجائع ، عن الحزن اللذيذ ، وعنه ، عن أنّها لا تزال مريضة به .. وأنّ ذلك الفرح الوحيد الذي جمعهما ذات يوم ، هو كلّ ما يبقيها الآن على عتبة السماء الأولى .. وأنّ الطريق إليه لا يزال طويلاً !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق